“أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً. إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشداً. فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً. ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمداً” (الكهف: 9 - 12). تلخص هذه الآيات قصة أهل الكهف، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد: قومه الذين سألوا عن قصتهم، وأهل الكتاب الذين أغروهم بالسؤال عنها، وقد قيل إن الذين لقنوا قريشاً السؤال عن أهل الكهف هم بعض النصارى الذين لهم صلة بأهل مكة من التجار الواردين إلى مكة، أو من الرهبان الذين في الأديرة الواقعة في طريق رحلة قريش من مكة إلى الشام، والمشهور أن الذين أمروهم بذلك هم جماعة من أحبار اليهود.
والآيات وما بعدها تحكي قصة نفر من صالحي الأمم السالفة ثبتوا على دين الحق في وقت شيوع الكفر والباطل فانزووا إلى الخلوة تجنباً لمخالطة أهل الكفر فأووا إلى كهف استقروا فيه فراراً من الفتنة في دينهم، فأكرمهم الله تعالى بأن ألقى عليهم نوماً بقوا فيه مدة طويلة ثم أيقظهم فأراهم انقراض الذين كانوا يخافونهم على دينهم، وبعد أن أيقنوا بذلك أعاد نومتهم الخارقة للعادة فأبقاهم أحياء إلى أمد يعلمه الله أو أماتهم وحفظ أجسادهم من البلى كرامة لهم.
وقد عرف الناس خبرهم ولم يقفوا على أعيانهم، ولا وقفوا على رقيمهم، ولذلك اختلفوا في شأنهم، فمنهم من يثبت وقوع قصتهم ومنهم من ينفيها، وقد صح عند أعلام المؤرخين أن وقائع القصة جرت في بلد يقال له (أبسس)، وكان بلداً من ثغور طرسوس بين حلب وبلاد أرمينية وأنطاكية، وكانت الديانة النصرانية دخلت في تلك الجهات، وكان الغالب عليها دين عبادة الأصنام على الطريقة الرومية الشرقية قبل تنصر قسطنطين.
وكان من أهل (أبسس) نفر من صالحي النصارى يقاومون عبادة الأصنام، وكانوا في زمن الإمبراطور (دقيانوس) الذي ملك في حدود سنة ،237 وكان ملكه سنة واحدة، وكان متعصباً للديانة الرومانية وشديد البغض للنصرانية، فأظهروا كراهية الديانة الرومانية، وتوعدهم دقيانوس بالتعذيب، فاتفقوا على أن يخرجوا من المدينة إلى جبل بينه وبين المدينة فرسخان يقال له (بنجلوس) فيه كهف أووا إليه، وانفردوا فيه بعبادة الله.
ولما بلغ خبر فرارهم مسامع الملك وأنهم أووا إلى الكهف أرسل وراءهم فألقى الله عليهم نومة فظنهم أتباع الملك أمواتاً، وقد بقوا في رقدتهم مدة طويلة ذكر القرآن أنها ثلاثمائة وتسع سنوات، ثم إن الله جعلهم آية لأنفسهم وللناس فبعثهم من مرقدهم ولم يعلموا مدة مكثهم وأرسلوا أحدهم إلى المدينة، بدراهم ليشتري لهم طعاماً، فعجب الناس من هيئته ومن دراهمه وعجب هو مما رأى من تغيير الأحوال، وتسامع أهل المدينة بأمرهم، فخرج قيصر الصغير مع أساقفة وقسيسين وبطارقة إلى الكهف فنظروا إليهم وكلموهم وآمنوا بآيتهم، ولما انصرفوا عنهم ماتوا في مواضعهم، ولما حضر ملك الروم وشاهدهم أمر بأن يبنى عليهم مسجد، وكانت آية تأيد بها دين المسيح.
النضر بن الحارث
لم يكن كفار قريش يعرفون عن أهل الكهف شيئاً، وقد أمرهم بعض أهل الكتاب أن يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عنهم، وتروي كتب السيرة: أن النضر بن الحارث، قال: يا معشر قريش والله لقد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحلية بعد، قد كان محمد فيكم غلاما حدثا أرضاكم فيكم وأصدقكم حديثا وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم الشيب في صدغيه وجاءكم بما جاءكم به قلتم: ساحر، ولا والله ما هو بساحر، وقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم، وقلتم: كاهن، لا والله ما هو بكاهن، قد رأينا الكهنة تخالجهم وسمعنا سجعهم، وقلتم: شاعر، لا والله ما هو بشاعر، لقد روينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها هزجه ورجزه. وقلتم: مجنون، لا والله ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخليطه، يا معشر قريش انظروا ما في شأنكم فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم.
وكان النضر من شياطين قريش، وكان ممن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد قدم الحيرة وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس، فكان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلساً فذكر فيه بالله، وحذر قومه مما أصاب من قبلهم من الأمم من نقمة الله عز وجل، خلفه في مجلسه إذا قام، ثم قال: أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثاً منه، فهلم إليّ فأنا أحدثكم أحسن من حديثه. ثم يحدثهم عن ملوك فارس ثم يقول: بماذا محمد أحسن حديثا مني؟ وما أحاديثه إلا أساطير الأولين اكتتبها كما كتبتها.
فلما قال لهم ذلك النضر بن الحارث بعثوه وبعثوا معه عقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود المدينة، وقالوا لهما: اسألاهم عن محمد، وصفا لهم صفته، وأخبراهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم علم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى قدما المدينة فسألا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصفا لهم أمره وأخبراهم ببعض قوله، وقالا: إنكم أهل التوراة وقد أتيناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا، فقالت لهما أحبار يهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل وإن لم يفعل فالرجل متقول، فروا فيه رأيكم: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم، فإنه قد كان لهم حديث عجيب، واسألوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه، واسألوه عن الروح ما هي؟ فإن أخبركم بذلك فاتبعوه، فإنه نبي مرسل، وإن لم يفعل فهو رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم.
إصرار على الضلال
رجع النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى مكة، وقالا لقريش: قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أشياء أمرونا بها، فإن أخبركم عنها فهو نبي وإن لم يفعل فالرجل مفتون فروا فيه رأيكم، فجاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه في تلك الأشياء فقال لهم: أخبركم بما سألتم عنه غدا ولم يستثن، فانصرفوا عنه، ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يذكرون خمس عشرة ليلة لا يحدث الله تعالى في ذلك وحيا ولا يأتيه جبريل، حتى أرجف أهل مكة وقالوا: وعدنا محمد غدا واليوم خمس عشرة ليلة قد أصبحنا منها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه، حتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث الوحي عنه وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة.
ثم جاءه جبريل صلى الله عليه وسلم من الله عز وجل بسورة الكهف وفيها معاتبته على حزنه عليهم، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية، والرجل الطواف فقص عليهم القرآن قصة ذي القرنين، وذكر لهم قول الله عن الروح، وهي الأمور التي سألوه صلى الله عليه وسلم عنها. قال ابن إسحاق: فلما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما عرفوا من الحق، وعرفوا صدقه فيما حدث وموقع نبوته فيما جاءهم من علم الغيب حين سألوه عنه، حال الحسد منهم له بينهم وبين الحق.
أعداء جبريل
“قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقاً لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين. من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين” (البقرة: 97 - 98). أجمع أهل العلم بالتأويل أن هذه الآية نزلت جواباً لليهود من بني إسرائيل، إذ زعموا أن جبريل عدو لهم، وأن ميكائيل ولي لهم، وجاء ذلك في مناظرة جرت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر نبوته، حيث حضرت جماعة من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا أبا القاسم حدثنا عن خلال نسألك عنها لا يعلمها إلا نبي. قال: “سلوني عما شئتم ولكن اجعلوا لي ذمة الله عز وجل، وما أخذ يعقوب على نبيه لئن حدثتكم شيئاً لتبايعني”. قالوا: فذلك لك. قالوا: أربع خلال نسألك عنها: أخبرنا أي طعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة؟ وأخبرنا كيف ماء الرجل من ماء المرأة، وكيف الأنثى منه والذكر؟ وأخبرنا كيف هذا النبي الأمي في النوم ومن يليه من الملائكة؟ وأخبرنا ما هذا الرعد؟ فأخذ عليهم عهد الله وميثاقه: “لئن أخبرتكم لتبايعني”. فأعطوه ما شاء من عهد وميثاق. قال: فأنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى: هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضا طال سقمه فنذر لئن عافاه الله عز وجل ليحرمن أحب الطعام والشراب، وكان أحب الطعام إليه لحمان الإبل وأحب الشراب إليه ألبانها” وفي رواية: كان يسكن البادية فاشتكى عرق النسا، فلم يجد شيئا يداويه إلا لحوم الإبل وألبانها. فقالوا: اللهم نعم، اللهم اشهد، قال: فأنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو هل تعلمون أن ماء الرجل أبيض غليظ وأن ماء المرأة أصفر رقيق، فأيهما علا كان الولد والشبه بإذن الله عز وجل، إن علا ماء الرجل كان ذكراً بإذن الله، وإن علا ماء المرأة كان أنثى بإذن الله تعالى”، قالوا: اللهم نعم اللهم فاشهد، قال: “فأنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن النبي الأمي تنام عينه ولا ينام قلبه؟ قالوا: اللهم نعم اللهم اشهد، قالوا: أنت الآن حدثنا من وليك من الملائكة؟ فعندها نجامعك أو نفارقك، قال: “وليي جبريل، ولم يبعث الله عز وجل نبيا قط إلا وهو وليه”، قالوا: فعندها نفارقك، لو كان وليك سواه من الملائكة لاتبعناك وصدقناك. قال: “فما يمنعكم أن تصدقوني؟”، قالوا: هذا عدونا من الملائكة، فأنزل الله عز وجل: “قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله” (البقرة: 97).
رواية ابن عباس
وقد صح عن ابن عباس قال: أقبلت يهود إلى رسول الله فقالوا: يا أبا القاسم إنا نسألك عن خمسة أشياء فإن أنبأتنا بهن عرفنا انك نبي وفيه أنهم سألوه عما حرم إسرائيل على نفسه، وعن علامة النبي، وعن الرعد وصوته، وكيف تذكر انه وتؤنث، وعمن يأتيه بخبر السماء، إلى أن قالوا فأخبرنا من صاحبك؟، قال: (جبريل)، قالوا: جبريل ذاك ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا، لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والنبات والقطر لكان خيراً، فنزلت الآية. ويبدو أنها كانت حجة حاضرة عندهم حين تغلبهم الحجة الدامغة، وقد قال ابن عباس: “إن حبراً من أحبار اليهود من فدك يقال له عبدالله بن صوريا حاج النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن أشياء فلما اتجهت الحجة عليه”، قال: “أي ملك يأتيك من السماء؟”، قال: جبريل ولم يبعث الله نبياً إلا وهو وليه قال: ذاك عدونا من الملائكة ولو كان ميكائيل لآمنا بك إن جبريل نزل بالعذاب والقتال والشدة فإنه عادانا مراراً كثيرة وكان أشد ذلك علينا أن الله أنزل على نبينا أن بيت المقدس سيخرب على يدي رجل يقال له بختنصر وأخبرنا بالحين الذي يخرب فيه فلما كان وقته بعثنا رجلاً من أقوياء بني إسرائيل في طلب بختنصر ليقتله فانطلق يطلبه حتى لقيه ببابل غلاماً مسكيناً ليست له قوة فأخذه صاحبنا ليقتله فدفع عنه جبريل وقال لصاحبنا: “إن كان ربكم الذي أذن في هلاككم فلا تسلط عليه وإن لم يكن هذا فعلى أي حق تقتله؟ فصدقه صاحبنا ورجع إلينا وكبر بختنصر وقوي وغزانا وخرب بيت المقدس فلهذا نتخذه عدواً فأنزل الله هذه الآية”.