الطفل حديث الولادة يعتمد اعتماداً كلياً على الآخرين فهو بدونهم لا يستطيع أن يحيا. ولا يستطيع أن يعتني بنفسه وبعد فترة يجد الطفل أن صرخاته تحضر والديه سريعاً نحوه.
ولعل هذا أول نجاح يتحكم له في عالم الأقوياء أعني عالم الكبار ذلك العالم الذي يحيط به بمجموعة من الكبار والأطفال الأقوياء الذين ينافسونه في الاهتمام الذي يطلبه. إنه ضعيف تحت سيطرة الآخرين وفي كل مرة يكون لديه احتياج (جوع – عطش – تبول – ألم) يجد نفسه محاطاً بجو من التوتر ولكي يتغلب على هذا التوتر لابد أن يجد طريقاً يحكم به عالم الكبار. لابد أن يدعم إحساسه بالثقة والقوة. فبحكمه للعالم حوله يشعر أنه آمن ولعل التحكم في العالم حول الطفل هو أول درس يعيه. وهذا التحكم له نموذجان، الأول إيجابي: ألا وهو الحاجة للثقة والثاني سلبي: وهو الحاجة إلى القوة والطفل في حاجة لأن ينمي الإحساس بالثقة حتى يشب صحيحاً نفسياً، وأغلبنا لا ينس بعض تصرفات أطفالنا في محاولة منهم للتحكم في العالم حولهم. فعندما يدخل الطفل لينام مثلاً ويجد أن أبويه يجلسان للاستمتاع بالراحة يبدأ الطفل في سلسلة من الطلبات تبدأ بقبلة المساء وقد تطلب الأم من طفلها أن يعود لفراشه مرة أخرى لكنه ما يكاد يدخل فراشه حتى يطلب كوب من الماء فتطلب الأم من الطفل بحزم أن ينام لأنه احتسى كوب من الماء منذ فترة قصيرة. ثم ما يلبث الطفل بعد فترة قصيرة أن يطلب الذهاب للحمام وترد الأم أن عليه أن يعود بسرعة لفراشه فيرد الطفل أنه لا يستطيع أن يخلع ملابسه حتى يدخل الحمام فتقوم الأم وعيناها تشير إلى حالة الغضب التي تتملكها. لقد كان الطفل وأمه في معركة للقوة وكانت الأم تحاول أن تجبر الطفل ليدخل فراشه والطفل يريد أن يخرج من الفراش وعندما تنجح الأم في إدخال ابنها إلى الفراش فإنها تكون في موقع المسيطر ولكن الطفل لا يستسلم بسهولة فيظل ينادي مرة بعد أخرى حتى تفقد الأم أعصابها ويكسب الطفل الجولة لفترة. لقد نال الطفل الاهتمام الذي كان يرجوه وأثبت أنه ليس عليه أن يذهب للفراش، بل استمتع بإزعاج أمه. إنها معركة القوة والتحكم.
إن بحث الطفل عن إحساس الثقة والتحكم يمكن أن يوجه سلوكه.. فإن الكثير من الأطفال يبحثون عن هذه الأحاسيس من خلال تقليد الوالدين في حمل الأشياء الثقيلة مثلاً.
والرغبة والحاجة للثقة عطية إلهية.. فكلنا يريد أن يشعر بالرضا والثقة ولعل هذا الشعور هو أحد علامات النضج العاطفي. إنه السلام الداخلي الذي ينبع من هذه المشاعر التي ترتبط بقدراتنا.. ولذا فإن علينا أن ننمي هذه المشاعر في أطفالنا. والبحث عن الثقة والقوة يمكن أن يصبح خطأ إذا ما قاد إلى الصراعات ومعارك القوة.. وأغلب الأطفال في المرحلة المبكرة من حياتهم يعتقدون بأن عليهم أن يسيطروا على من هم حولهم حتى يشعروا بالأمان وقد تستمر هذه الأحاسيس مع البعض في الكبر فلا يشعرون بالأمن ما لم يكونوا في موقع يتحكمون من خلاله في الآخرين. وقد تكون محاولة الطفل لكسر القواعد محاولة منه لإثبات قوته. لكن الحقيقة التي يجب ألا تغيب عن أذهاننا أن الطفل على المستوى العميق يحتاج لضوابط. وإن لم توجد هذه الحدود والضوابط فمن السهل ألا يشعر الطفل بالأمان.
ثانياً: الحاجة للمحبة والاهتمام وكثيراً ما نرى أطفالنا ما أن يرونا نجلس لنتصفح الجريدة مثلاً حتى يأتي الطفل إلينا ليضرب الجريدة ويطلب من أبيه أن يلعب معه وعندما يخبره والده أنه مجهد لأنه عائد من العمل قد يصمت برهة، ثم يعاود الطلب مرة أخرى. وعندما يرجىء الأب الطلب قد يرد الطفل "يا أبي أنت لا تلعب معي أبداً!"، ويشعر الأب بالذنب وإنه لن يهنأ بقراءة الجريدة ما لم يشبع حاجة الصغير فيذهب للعب معه وبعد دقائق يشعر الصغير أنه في حالة من الرضا ويعود الأب لجريدته مرة أخرى.
لعل هذا التصرف يوضح بعض أهداف سلوك الطفل، إنه يبحث عن المحبة والاهتمام ورؤيته لوالده خلف الجريدة تشعره بأنه بعيد لا يهتم به. ولعل البحث عن المحبة والاهتمام تفسر إلى حد كبير بعضاً من سلوك أبنائنا. والحاجة للمحبة والاهتمام عطية إلهية بدونها لا يصبح للحياة طعم. وعندما يفشل الطفل في كسب المحبة والاهتمام قد يسلك سلوك خاطىء لمجرد إشباع الحاجة. فعندما يفشل في أن يخرج أمه من المطبخ في أثناء انشغالها قد يتعمد أن يرسم على الحائط أو أن يكسر شيئاً في محاولة لا شعورية منه للحصول على الاهتمام. لكن المشكلة أن العديد من الأطفال لا يستطيعون التمييز بين الحاجة للمحبة والاهتمام. فالمحبة حاجة بناءة، ولكن البحث عن الاهتمام دافع غير سليم. وبعض الأطفال يخلط الأمر فيعتقد أنه لابد أن يكون في مركز الاهتمام حتى يحب من الوالدين وعندما يسلك الطفل سلوك البحث عن الاهتمام يوجد أمامنا كوالدين ثلاثة بدائل:
1- البديل الأول: يمكننا أن نترك أي شيء في أيدينا ونلبي لهم رغباتهم، ولعل هذا الأسلوب يسمح بقدر من السلام الوقتي ويجنبنا مشاعر الذنب لكوننا والدين غير مهتمين ولكنه لن يحل المشكلة!
2- البديل الثاني: إهمال طلب الطفل تماماً وقد يجدي هذا الحل في تغيير سلوك الطفل، ولكن المشكلة ماذا لو كان طلب الطفل أصيلاً وأن حاجته للمحبة فعلية أو أنه خائف أو مذعور.
وتكرار محاولة الطفل جذب الاهتمام تشير إلى شيئين:
أ – أن حاجة الطفل للمحبة لم تُوَف.
ب- أو أن الطفل يريد أن يتحكم لا شعورياً في من حوله.
3- البديل الثالث: يعتمد على فكرة أن نتأكد أن حاجة الطفل قد تم إيفائها. وأننا نقضي معه وقتاً مناسباً. وعلينا أن نوصل له بعد تأكدنا من أنه يفهم اهتمامنا ومحبتنا بأن الأب والأم لديهما أعمال للقيام بها. وأن الطفل يمكنه أن يلعب بما لديه من لعب في أثناء انشغال والديه. وهكذا فإننا نوفي حاجة الطفل الأصيلة للمحبة ولكننا في نفس الوقت نرفض المسلك الخاطىء للتحكم.
ثالثاً: الحاجة للإحساس بالقيمة: الإحساس بالجدارة والكمال الإحساس بالجدارة هو الحكم بأن الطفل جيد.. ولمقابلة هذه الحاجة فإن أغلب الأطفال تكتسب سلوكاً إيجابياً لمقابلة استحسان الوالدين. ولكن حذار!! فإننا كثيراً ما نخطىء تجاه أولادنا دون أن ندري ونحن نتعامل معهم لتسديد هذه الحاجة لديهم. فإن ا لكثيرين منا يخبرون أولادهم أن الله ووالديهم لا يحبونهم عندما يكونوا أولاد غير صالحين. وهكذا نعلمهم أنهم لا يستحقون المحبة عندما يتصرفون بطريقة معينة وكم تحمل هذه الطريقة رغم كثرة استخدماتها من تزييف للحق.
ذلك أن لب رسالة الإنجيل أن الرب قد أحبنا كما نحن لكننا نريدهم أن يكونوا صالحين حتى يتلقوا هذا الحب. وعندما يفشلون كأطفال ينمو داخلهم إحساس بعدم الجدارة التي تسبب لهم مشاكل عاطفية عديدة. ويتداخل لدى بعض الأطفال الإحساس بعدم الجدارة أو الكفاءة والكمال الشخصي وذلك لاعتقاد بعض الأطفال أن أي تصرف غير سليم (غير كامل) يضرهم وذلك بسبب توقعات والديهم الغير واقعية.
إنهم يحاولون أن يتفوقوا وأن يكون أدائهم ممتازاً وخوفهم من الإدانة يجعلهم مدفوعين لأن يبدوا كما لو كانوا ملائكة. ورغم أن مثل هذه الدوافع قد تنتج سلوكاً مطلوباً إلا أنه يكون على حساب أشياء كثيرة هامة.
إن الطفل من حقه أن يدرك أنه جدير بالثقة والكفاءة والمحبة لمجرد كونه طفلاً!!
وهكذا فإنني أستطيع أن ألخص أهداف وسلوك الطفل في الآتي:
الحصول على:
1- المحبة 2- الثقة3- الجدارة
4- الاهتمام5- القوة6- الكمال
ومشاعر المحبة والثقة والجدارة هي مشاعر بناءة إيجابية وعندما لا يجد الطفل هذه المشاعر البناءة فإنه من السهل عليه أن يطلب البديل أي المشاعر السلبية التي هي البحث عن الاهتمام – القوة – الكمال.
وعندما لا توفي حاجة الطفل الأصيلة للمحبة والثقة والقيمة فإن بعض التفاعلات السلبية قد تظهر في سلوكه كأن يغضب مثلاً أو ينتقم أو أن ينشغل بالبحث عن سلامه النفسي.
وعادة عندما يفشل أطفالنا في أن يكونوا عند مستوى توقعاتنا كوالدين فمن السهل أن يصابوا بخيبة الأمل والغضب وأحد أساليب الانتقام والغضب من جانب الطفل هو أن يصبح طفل "وحِش" نظراً لتوقعات والديه فيه.
السبيل الآخر الذي يسلطه الطفل عند الفشل في إشباع حاجاته للمحبة والثقة هو استخدام الأساليب الدفاعية لإحداث الأمان النفسي.
معركة القوة: إن كل صدام يحدث بين الأب والابن لابد أن يشمل صراع للقوة. ويكون منطق الطفل في هذه الحالة "سأريك من يغلب!" ويقبل الوالدين التحدي دون إدراك للنتائج أنهم يريدون إثبات سلطانهم للطفل وكلنا لا ينسى عناد الطفل وهو ينفذ أمراً ما فإن هذا العناد يزود الطفل بإحساس بالقوة ورفض التعاون مع والديه.
والسؤال الذي يجب ألا يغيب عن أذهاننا... ترى هل نفهم نحن الوالدين هذه اللعبة؟ أم ننجرف أمام هذا التحدي؟
إن رد الفعل الطبيعي لأغلبنا هو أن نرد القوة بالقوة. وحيث أننا الأكبر والأقوى فإننا نفترض بأنه يمكننا مواجهة هجوم الصغار وفي نفس الوقت الاحتفاظ بسلطاننا عليهم. وإن عصى الطفل يمكننا أن نضربه ليخضع وإن فشل في أداء ما، يمكننا أن نعاقبه. والواضح أن معركة القوة لن تحل العديد من المشاكل فالواضح أول كل شيء أن هذه المعركة لن تجدي شيئاً ذلك أن الطفل له أسلحته الخاصة. فمن المستحيل مثلاً إجبار الطفل ليأكل أو أن يحسن درجاته في المدرسة. إن عدم الأكل والتراخي في أداء المهام المدرسية هي إحدى وسائل الطفل لاكتساب القوة في مواجهة قوة والديه. إنه يعلم أن مثل هذه الأشياء سوف تضايقنا... وكلما قلقنا أكثر بشأنها كلما أحبها أكثر. وفي كل مرة يصرخ الأب أو يعاقب أو يضرب فإن الطفل يعتقد لا شعورياً أنه الفائز. إنها المقاومة السلبية التي يتسلح بها الطفل برفضه للأكل أو عدم تحسين درجاته أو عدم الامتثال لأمر ما، لإظهار أنه ليس من السهل التحكم فيه وحتى عندما نضغط عليه للتصرف الصحيح فإنه يضغط علينا حتى يوصلنا إلى مرحلة الغضب وهذا هو الانتصار بالنسبة له.
المشكلة الثانية في معركة القوة هي طبيعتها المتحكمة. قد يسأل الطفل لماذا يجب أن أعمل ذلك الشيء؟ وتكون الإجابة "لأني قلت كده!" وعندما تصيح "لأني قلت كده" هي الهدف فلن يتعلم الطفل شيئاً قد يتعلم الطاعة ولكنه لن يتعلم ضبط النفس.
وليس معنى ذلك ألا نمارس دورنا كآباء في حياة أولادنا فإن الرب قد حملَّنا هذه المسئولية ومن الواضح أيضاً أننا يجب أن نتدخل لاسيما عندما يهدد الخطر حياة أولادنا. وقد يغضب أطفالنا لهذا التدخل، ولكن هذا يتوقف على هدوئنا ونحن نمارس دورنا. فبهذا الاتجاه الهادى يمكننا أن نمارس دورنا بطريقة بنّاءة.
وتظهر المشكلة عادة عندما نمارس دورنا كآباء في الوقت المناسب، ولكن بطريقة خاطئة. وقد نظن أننا نعمل الصالح لأجل مصلحة أولادنا في الوقت الذي نستعرض فيه قوتنا أو نُنَفس فيه عن غضبنا! من المستحيل أن نعلم أولادنا طالما أننا استدرجنا للدخول في معركة للقوة أو الصراع. فطالما أننا في حالة من الغضب والتوتر فإن أطفالنا يقرأون ما يجول بداخلنا. إننا كتاب مفتوح أمامهم. إن مجرد نبرة الصوت تشير إلى حالة الصراع التي تعترينا. وقد نردد أننا لسنا في حالة غضب ولكن صوتنا يكشف العكس.
طفلك والأسرار: بالتأكيد بأن الطفل حتى يوم ميلاده يعد جزءاً من أمه إلا أنه بعد مولده، ورغم قطع الحبل السري يظل مدة طويلة مرتبطاً بها تماماً. فهو لم يعد مستقلاً، بل مازال طفلها الذي يعتمد عليها كلياً أو جزئياً. وعندما يتكلم نراه في حاجة إلى أن يخبرها بكل شيء حتى أدق أسراره. وتمر الأيام ويكبر الطفل ويذهب إلى المدرسة بمفرده. هنا عليه أن يستقل بأموره شيئاً فشيئاً عن أمه وعن أبيه أيضاً لكي تصبح له شخصيته المستقلة وهنا تصبح أسراره ركائز هذا الاستقلال. ولن يشعر بكيانه ما لم تكن له أسراره الخاصة التي لا يطلع أحد عليها حتى أبواه ولن يشعر بشخصيته المستقلة عنهما ما لم تكن له أسراره الخاصة التي لا يعرفان عنها شيئاً. عندها فقط يشعر بتميزه عنهما وبأنه شخصية لها كيانها الخاص